قد نشر حضرة الاستاذ الشهير ميسنر (Meissner) منذ سنتين(2) ملحقاً خطيراً لخرافة (Mythe) جلجامش البابلية المرقومة بالخط المسماري. ويسرنا الآن أن نعلن للقراء أن أحد فضلاء الانكليز وهو العلامة تاوافيلوس بنجس (Pinches) نشر في هذه الأيام أثراً نفيساً للآداب المسمارية. وهو عبارة عن بعض أناشيد للآله تموز أدونيس معبود ما بين النهرين. ولا يخفي أن العلامة بنجس قارئ هذه الكتابة وهو من العلماء المعول عليهم في عمل كهذه. غير أنه رغب بالتصريح أن ترجمته لهذا الأثر ليست نهائية، وذلك لأن الأناشيد قد كتبت باللغة السومرية الأكادية دون أن تنقل إلى اللغة البابلية السامية أو إلى الآشورية، ولا يعرف من اللغة السومرية الأكادية إلاّ النزر اليسير فتعذّر إذاً إعطاء ترجمة مدققة لكتابة غامضة. ويستدل من خطّ هذا الأثر أنه يرتقي إلى 2000 سنة قبل المسيح. ولا جرم أن هذه الأغاني أو الأناشيد قد نقلت عن صفائح من الآجر أقدم عهداً. وقد أصاب صفيحتنا إتلاف عظيم وتشوه كثير من أسطرها فزاد بذلك عناء المترجم.
وتحتوي الكتابة المذكورة على 216 سطراً نصفها جليّ سهل القراءة، وقد نقل هذا الأثر الى مدرسة أونس (Owens) في مدينة منشستر وحفظ فيها. والصحيفة كما قلنا عبارة عن أناشيد للآله تموز ولقرينته الآلهة عشترت وإن كان الآله مراراً لا يدعي باسمه المألوف فإن الكلمة السومرية ((متنا)) (بعل عشترت قد استعملت إشارة اليه.
تبتدئ الأناشيد بنداء عشترت لتموز ولربما كانت كهنة الآلهة تردده في هيكلها أيام عيد تموز السنوي والبكاء عليه. وفي هذا الدعاء عبارة من شأنها أن تؤثر في قلب الآله وتستجلبه لاستماع الدعاء وهي: أرجع أيها "القرين" ثم تخبرنا الأناشيد المسمارية أن أصوات النداء لتموز كانت تصعد وتمتد وتجعل الآله لها مطيعاً. وطالما يلقب تموز في افتتاح هذه الأناشيد باسم الرب والسيد. واللفظة السومرية "أم" تقابل اللفظة السامية أدون ومنها أدونيس" وأما عشترت وهو اسم الآلهة البابلي فإنها تدعى "إنانا" وهو اسمها السومري.
وبعد هذه المقدمة ورد في الأناشيد أن حاجزاً يقوم بين تموز وعشترت ويمنع الآله أن يسرع لصراخ ونداء قرينته. ولربما يكون الحاجز المذكور باب الهوة والأرض السفلي لأن الآلهة اريشيجلّة (Ishegalla)-وهي اللات-تظهر لنا في هذه الأناشيد كمطلقة السلطة في حدود جهنم (Aons).
هنا ينقطع الخبر عن تموز وعشترت لأن الكتابة مشوهة وما يمكن أن يقرأ بعدئذ ماهو إلاّ أنشودة ثناء وفرح بسبب رجوع تموز. وفي الخاتمة بعض عواطف حزن وأسف لأنه على الآله أن ينزل ثانية في الهاوية إذا ما حان الزمان لذلك.
وفي أثناء الكتابة يدعي تموز بابن المزمار، وهو لقب على كل من يدرس هذه الخرافات أن يحفظه ولذا نجد في القصص المسمارية التي ترجمها منذ بضع سنوات العالمان سايس (Sayce) وأوبرت (Oppert) والملقبة بنزول عشترت أنه كان يهلل لتموز على صوت المزمار: "أعزف لي بالمزمار يوم تموز واترك أيضاً الماهرين في ألحان الحزن يعزفون لي".
ثم يستأنف النشيد ويصف مقر تموز في هاوية الأرض السفلي المدعوة "أبزو" وأبزو كانت سكناً لآيا (Ea) وهناك مياه الجحيم العزيرة ومن تلك الأقطار أتى الآله أونيس ليثقف قاطني ما بين النهرين بالآداب على ما تنبئنا القصص الخرافية التي حفظها بروزوس. ويظهر أنه كان فيها شاطئ حيث كان تموز يرعى قطعانه مثلما كانت هليوس (أي الشمس) ترعى قطعانها وراء البحر المحيط على طريق أرض الموت المظلمة.
وبعد هذا تتكلم الأناشيد عن تموز كأنه إله الحصاد والفلاحة وتقول إنه لما أصغى لنداء عشترت ورجع اليها أخذت الزروع والأغراس تنبت الى فصل الخريف القادم.
ولا نجهل أن تربية النباتات كانت إحدى صفات عبادة تموز. ويجدر بنا التنبيه- إذا ما كانت الترجمة صادقة- أننا نقدّر أن نقرأ اشعيا (ف17ع10) كما يأتي:
"إنك تزرعين أغراس أدونيس نعمانيم". ونعمان العزيز ما هو إلاّ اسم محبوب لدى تموز.
وقد ألحق العلامة بنجس بهذا الأثر بعض أناشيد بابلية يدعى بها تموز إله الأنهار ومجاري المياه التي تنصب من ينابيعها وتخصب الحقول. وكان تموز أحياناً في بابل إله المياه ويعبد بصبها. ولهذا نقرأ في أحد النصوص أن "صبّوا لتموز مياها نقية".
ولا يخفي أن عبادة تموز أدونيس في جبيل (Byblos) في سوريا كانت عبادة نهر إبراهيم إذا احمّرت مياهه بسبب التراب والأوساخ المتساقطة من جبل لبنان. فيظنون أن المياه إنّما تحمرّ من إمتزاجها بدم الآله بعد أن مزقت جسمه مخالب الوحش الضاري.
ومما يستلفت الخواطر هو أن عبادة تموز باقية إلى الآن بين يزيدية جبل الأكراد مع عبادة الشمس أو كما يقولون "الشيخ شمس" وعبادة تموز عندهم سرّية ويعبّر عنها بطير الطاؤوس ويدعونه "الملك طاؤوس" وما هو إلاّ تموز النبطيين الأقدمين والآله الذي تكلّم عنه حزقيال النبي (ف8ع14): "ثم أتى بي إلى مدخل باب بيت الرب الذي هو جهة الشمال فإذا هناك بنساء جالسات يبكين على تموز".
واليزيدية يدعون الطاؤوس (الأب الطاؤوس)، وحينما يقدمون له العبادة يزينون ملابسهم بشقائق النعمان الحمراء اللون. وكانت هذه الزهرة مكرسة لأدونيس وهو تموز، واسمه السوري أدون، أي الرب والسيد كما تقدم. ويقول لنا الشاعر اللاتيني أوفيد: إنّ دم أدونيس ينمي شقائق النعمان. وانتقلت هذه الخرافات إلى بعض العرب وقد أتتهم من سوريا أو بابل فيسمون شقائق النعمان زهور جراح أدونيس. ويخبرنا الرحالة البيروني في القرن العاشر أنّ الصابئة كانوا يقدّمون العبادة لتموز بنوح وبكاء، كما وأنّنا نرى عبادة هذا الآله دائمة إلى الآن بين اليزيدية. (إنتهى البحث/الاكتشاف)
الهوامش:
(1) نشر هذا البحث تحت العنوان أعلاه في مجلة المشرق، 7 (سنة 1904، ص 908-910). واعيد نشر هذا البحث في كتاب صدر حديثا بعنوان: اليزيدية/اشكالية المنهج- دراسة ونصوص وتعليقات، الدكتور وليد محمود خالص، الجزء الأول، كنوز المعرفة، الطبعة الأولى 2016، ص 106-108
(2) يقصد سنة 1902 حيث أن البحث قد تم نشره عام 1904.
(1)
الدكتور يوسف أفورد
أحد أعضاء جمعية علوم الآثار القديمة المتعلقة بالكتاب المقدس في لندن